الأحد، 29 أكتوبر 2017


بقلم الأستاذ لسعد المحضي 
=========
الجزء الأول
كان يلتقط حبات الزيتون بين أصابعه من صحن الكفتاجي داخل مطعم شعبي في زاوية من زوايا باب الدزيرة كما يطلق عليه.. ذات ظهيرة ساخنة تكاد الشمس تثقب الرؤوس كان قد أنهكه التعب و ثقلت خطواته و هو يقطع أزقّة العاصمة من قهوة الدينار في إتجاه باب الفلة ثم سوق سيدي بومنديل و باب الدزيرة أين وجد ضالّته.. كانت رائحة الكفتاجي و المرقاز المشوي تملأ المكان فتتجمع القطط بمختلف أشكالها و أنواعها .. عجوز قوّس الزمان ظهرها كانت تجمع بقايا الخبز من أمام محلات الأكلة الخفيفة و من صناديق القمامة التي ضاقت بما تحتوي فتناثرت محتوياتها في كل مكان.. تختلط كل الروائح الكريهة لتجبره على مغادرة المكان و تقنعه بأن ما يأكله غير صحي بالمرّة و لكنه يصرّ على استكمال ما تبقى من الفريت المحترق فكان قد فتك الجوع بأمعاءه و لا بد له من ملئها..في الزنقة المقابلة ارتفعت اصوات الباعة المتجولين تمدح سلعهم المهربة صينية الصنع و أبواق السيارات كانت تخلق ضجيجا لا يُطاق يقاطعها بين الحين و الآخر صياح فتاة أو إمرأة اختطف أحد الكلوشارات حقيبة يدها أو هاتفها الجوال .. لا أحد يبالي يصياحها و لا أحد يهب لنجدتها الى أن يتوارى السارق بين الأزقة الضيقة فتندب حظها و تغادر مغلوبة على أمرها ..
إنتهى من صحن الكفتاجي و غادر المكان بإتجاه ساحة برشلونة ليمتطي الميترو و لكن بهرج العاصمة و صخبها و ضجيجها أغراه بمزيدا من التسكع في شوارعها فأخذته خطواته الثقيلة الى قلب العاصمة .. مرّر البصر على نزل الهناء الدولي و الكنيسة ثم وقعت عيناه على صمبة ابن خلدون يقف شاهدا على خراب العمران .. أخذ له مكانا في قهوة باريس و طلب كابوسان ، أخرج من حقيبته مجلة غرق في مطالعتها .. لم ينتبه الى فتاة تجلس قربه كانت تبيع عطرا رجاليا تحاول إغرائه بشتى الطرق لشراء قنينة من العطر المضروب .. لم يبال بما تقول و واصل قراءة مقال أعجبه و ترشف القهوة في فنجان صغير.. للقهوة في العاصمة مذاق خاص لم يتذوقه من قبل .. إقتربت الشمس من سطح البلاد العربي و بدأ المساء يدب في المدينة ، انطلقت عصافير شارع بورقيبة في نسج سمفونية حزينة تعكس حزن المدينة .. أخذ رشفة أخيرة من قهوته و غادر بكثير من الأفكار و التساؤلات .. في الجهة المقابلة تعج قاعة الكوليزي بروادها مدمنو الجعّة يحتسون ما لذ و طاب لهم من بنت العنبة غير مبالين بما تخفيه لهم الحياة ..
قفل راجعا نحو المبيت الجامعي يحاول ترتيب الأفكار و الفوضى التي غمرت عقله .. غدا هو أول يوم من أيام الجامعة سيدخل اسوارها بكثير من الأمل و الألم ، بكثير من التعب السابق لأوانه ، سيحاول إيجاد مكان له فيها .. في غرفته بالطابق الرابع جلس على حافة سريره و أشعل سيجارة .. كانت تلك أول سيجارة تلمس شفتيه و كانت بداية الرحلة
=====
(2) الجزء الثاني
=======
في الخامسة و النصف صباحا غادر المبيت الجامعي و كله شوقا لإقتحام الجامعة و اكتشاف خفاياها .. كان عليه أن يذهب باكرا لتجنب الازدحام و الفوضى في وسائل النقل العمومي. في الحافلة راودته العديد من الأسئلة ، ما الذي أتى به الى هذه الضوضاء و هذا الصخب الذي لم يألفه من قبل ، لماذا ترك جنوبه الهادئ و رمى بنفسه في هذه المعركة المجهولة عواقبها ، ماذا لو يفشل في هذه التجربة ، .. لم يستفق من ذهوله إلا أمام الباب الحديدي الكبير ، باب الكليّة . لم يوحي بأنه باب للجامعة ، كان يشبه أبواب السجون طبع في مخيّلته شيئا من السلبيّة حول الجامعة و ما بداخلها.. 
كان يحاول فهم ما يدور حوله ، كل شيء هنا مختلف عما تركه في قريته الهادئة ، البلاد و العباد كلهم مختلفون ، نظراتهم، ابتساماتهم، طريقة كلامهم، طريقتهم في التحية و السلام، لباسهم و أكلهم و حتى ترشّف قهوتهم بدا له مختلف ، فكان عليه أن يندمج فيهم و معهم و أن يعدّل في شخصيته العتيّة حتى تستطيع التأقلم مع هذا الواقع الجديد الذي مشى إليه بكامل إرادته .. في بهو الكليّة انتبذ له مكانا منزويا و فتح رواية لم يكن يطالعها و لم يكن قادرا حتى على مسكها بين يديه المرتعشتين و لكنه فقط فتحها ليوهم الحشد أنه منهمك فيها و لا وقت له لثرثرتهم و أحاديثهم التي بدت له مُمِلّة مُضجرة.. 
رنّ جرس الساعة الثامنة ، سيدخل أولى حصص الجامعة ، في طريقه الى المدرج عدد 1 استوقفته طالبة بدت من ملامحها حديثة عهد مثله، سألته أن يدلّها على إحدى القاعات ، لم يكن يعرف شيئا عنها و لكنه حاول مساعدتها بكل ما أوتيَ من خجل و حياء جنوبي .. شيئا ما فيها استوقفه و حثّه على مساعدتها.. ابتسامة بريئة ربما أو عينان صافيتان كصفاء السماء في ذلك اليوم الخريفي ، لا أحد يدرِ متى تتلبّد بها السحب و تمطر . ربما هذا الغموض في عينيها كان يخفي وضوحا و صفاء في داخلها و لكنه لم يثق ببراءتها كُليّا .. نظر مليًّا إليها تفحص ملامحها، حقيبة يدها، ساعتها اليدوية ، شعرها المنسدل على كتفيها، كل شيء فيها كان مختلفا أيضا .. لم تتجاوز كل هذه الأحداث بعض الثواني ، أجبره ارتباكه و تلعثمه على المغادرة مسرعا ، باتجاه الحصة الأولى .. 
هو ابن البادية و الجبال و الصحراء القادم من بعيد حاملا أحلامه و رزمة من الكتب و كثيرا من الآمال و سطلا من البسيسة الدياري تحسّبا لأي طارئ قد يحدث له، و هي ابنة العاصمة ، بلديّة ، بيضاء البشرة ، رقيقة المشاعر، تحتوي حقيبتها قليلا من الأوراق المبعثرة و بطاقة الطالب و قارورة عطرها .. هو الجنوب و هي الشمال، هو الحلم و هي الواقع ، بين الحلم و الواقع مسافة يصعب قطعها دون تعب أو كللٍ ..
أثناء حصة الدرس الأولى حاول فهم تلك الابتسامة الخفِرة. حاول أن يستعيد صورة عينيها، حاول أن يتذكر ما قاله لها ، ربما نطق بشيئ لم يعجبها ، ربما أحبطها بروده و لا مبلاته ، حاول و لكنه فشل و لم يتذكر شيئا .. لم يتذكر حتى تقاسيم وجهها فلربّما يلتقيها مجددا . غابت عنه كُليّا و لم يتذكر منها شيئا سوى ابتسامتها و هي تشكره على مساعدته لها .. 
مضت الساعة الأولى و لم يفقه شيئا مما يدور حوله. حاول أن يستحضر البعض من الإقتباسات الأدبية ربما تفيده في مثل هذه المواقف .. تذكّر قولا و نسي صاحبه " مجال الأدب ما بين الرؤية و الرؤيا ، إنطلاقا من الواقع الى الحلم الواهي" .. 
هو الآن ممزّق ما بين الرؤية و الرؤيا ، ما بين الواقع و الحلم، ما بين الأنا التي كانت و الأنا التي سوف تكون.. ممزق أيضا ما بين غموض العينين و ضوح الابتسامة .. بين هدوء الجنوب و ضوضاء الشمال ..
بمثل هذا الكم الهائل من الأفكار و التساؤلات ، غادر المدرج ، اتجه صوب مشرب الكلية، طلب قهوة و أشعل سيجارته الثانية .... و كان ما لم يكن يتوقعه ..
يتبع ...
====
الجزء الثالث
.. لم يكن مستعدا لمثل هذه البدايات، و لم يجهز نفسه لخوض مثل هذه التجارب الغريبة عليه. كان ذو طبع إنزوائي يميل الى الوحدة ليس حُبا للوحدة و إنما هجرانا لمجتمع نشأ و ترعرع بين أهله و علم من زيفهم و بهتانهم الكثير ما جعله يفضل الابتعاد. كان يترشف قهوته بهدوء و ينظر الى الخارج. افواجا من الطلبة يأتون مجموعات و فرادى و أزواجا. كانت الأحاديث توحي بخليط من الانتماءات و كان هو يحاول أن يتموقع بينهم أو أن يجد لنفسه مكانا طالما بحث عنه و لم يجده في قريته الهادئة.. 
رحلت به الذاكرة و هو يترشف قهوة الكابوسان ، إلى الوراء ، أخذته الى السنين الخوالي التي قضاها بين الجبال و الشعاب. أخذته إلى رائحة الصباح الشتوي و هدوء الليالي الصيفية و هو يسامر أجداده و اقربائه برحبة الحوش و ينصت الى الحكاوي و الخرافات التي لا تنتهي.. أخذته الذاكرة أيضا الى أول يوم تطأ قدمه ساحة المدرسة. تذكر كم كان غريبا ذلك اليوم ، كم يشبه هذا اليوم في كل حيثياته تقريبا..
تربى منذ صغره على حب الطبيعة و الفضاءات الرحبة، لم يألف مثل هذا الفضاء الضيق الذي يكاد يختنق بداخله لولا جرعة الاكسيجين من النافذة المفتوحة على ساحة الكلية.. ترعرع بين الجبال و الوهاد و تعلم منها معنى مخالفا للحياة . كان يحاول دائما فهم طلاسم هذا الكون العجيب. لطالما كان يغازل النجوم في ليالي الصيف الصافية.
ما جدوى هذه الأفكار و التصورات الآن ؟ ماذا ستفيده وسط هذة الغوغاء ؟ لماذا لم يستطع كبح جماح هذه الذاكرة الشرسة ؟ هو الآن يعيش شيئا من الواقع ، ينزل من برجه العاجي ، يتخلى عن أحلامه و يحاول جاهدا أن يقبل هذا الواقع العاصف بكل ما فيه من ألم و مرارة.. أمضى قرابة الساعة و هو يحاول ترويض افكاره و تركيزها على شيء معين شغل باله و لكنه تذكر كل شيئ و لم يتذكر تفاصيل وجهها و لون حقيبة يدها . لقد كان لزخم الأحداث في ذاكرته وقعا سلبيا شغل تفكيره و لم يترك له أي فرصة لفهم و فك شفرة تلك الابتسامة الغامضة..
ماذا لو عاد الى نفس المكان الذي إلتقت فيه نظراتهما ؟ لربما يعينه المكان على التذكر ، فللأمكنة وقع عميق علينا لا يعلمه أغلب العامة من الناس.
أطفأ ما تبقى من سيجارته و ترشّف رشفة أخيرة من قهوته و همّ بالخروج .. كان ينوي الذهاب الى المطعم الجامعي الذي يبعد محطة أخرى على الميترو، و لكن شيئا ما استوقفه ، فكأنما بصوت غيبي يكلمه . الأنا التي سوف تكون ربما تبدأ بنحت ذاتها داخله ، حاول التفسير و لكنه فشل.. كان يلزمه الكثير من الكتب و الأدب و الأشعار ليستطيع الانسجام مع الأنا التي ستكون و التخلي تدريجيا عن الأنا التي كانت..
فكّر في الكتب، هي ملاذه و هي البلسم لكل كدمات الحياة و هي الملجأ لكل شارد ، متشرّد مثله.. سأل عن مكتبة الكليّة و سار متردّدا نحوها. أي كتاب سيطلب ؟ شعرا ام نثرا ؟ قديما أم حديثا ؟
كانت المكتبة في الطابق الثاني، صعد ثلاث أو أربع درجات و رفع بصره على حين غفلة يتطلّع الى الجدران و النوافذ و المعلّقات .. كان يتحسّس ذاته في هذا الفضاء الهائل، رائحة الكتب في كل مكان، الهدوء يعمُّ المكان.
رفع بصره فوقعت عيناه عليها . و هي تغادر قاعة المطالعة، كانت تحمل كتابها بيمينها و فنجان قهوة بيسارها.. لم يكن المكان و لا الزمان ملائما لأي شيء سوى لتحيّة بصوت خافت .. واصل كل منهما طريقه، صعد هو و نزلت هي .. فتح باب القاعة برفق و ارتمى في أحضانها .. أحضان الكتب و الآداب و الأشعار ..
يتبع ..
=======
الجزء الرابع
==

.. كان يميل الى الكلاسيكيات من الأدب، هوميري الشهامة، شكسبيري التراجيديا، و في التحامه بالطبيعة كان يجد في أشعار وردزوورث ملاذا آمنا من صخب المدينة و ضوضاءها. وقف كهمْلِتْ يتأمل ذاته المتكسرة على صلابة هذا الواقع القاسي و يحاول إيجاد سبب مقنع لوجوده في هذا العالم.. كان سؤال الوجود هذا من الأسئلة التي تؤرقه دائما و تبعث في ركامه شيئا من اللهيب المتّقد فتدفعه الى الحفر عميقا في دواخل هذه الذات الغريبة العجيبة، الذات الانسانية.. بحث عن كتاب يجد فيه ملجأ له ، كتاب يشفي غليل هذه الأنا المتمرّدة في داخله و يخفف عليه عبء السؤال.. " أن أكون أو لا أكون ذلك هو المشكل " هكذا كانت صرخة هملت في اعنف و اعمق و أكثر التراجيديات تعقيدا. هو نفس الاشكال يتكرر معه و نفس السؤال يطرح نفسه فيزيد من وضعيته تعقيدا .. كان مشتّت التفكير شارد الذهن يمشي دون تركيز بعد أن غادر قاعة المطالعة دون أن يأخذ معه أي كتاب.
كانت الساعة تشير الى الرابعة و النصف مساء ، تلبّدت سحب كثيفة في سماء العاصمة و أصبح الجو غائما مكفهرّا .. أسرع الخطى نحو محطة الميترو أين احتشد جمع كبير من الناس في انتظار العودة الى ديارهم .. سار وسط الحشد باحثا له عن مكان منزوٍ و كان المطر قد بدأ بالنزول ، قطرات خفيفة كان يراها تنزلق عل وجوه فتيات فتزيل ما كنّ قد فعلنه بأنفسهنّ من احدث انتاجات " المايك آب " .. تفتح فتاة شقراء مظلتها لتحمي نفسها من قطرات المطر بينما كان هو يستمتع بها تغوص الى داخل روحه ، تدغدغ فيه ميّت الاحساس و تذكي فيه نار الذاكرة .. هي الذاكرة مرة أخرى تأخذه الى زمن قد ولى و انقضى ، زمن كان فيه يرعى قطيعا من الأغنام حافي القدمين في أعالي الجبال و المطر يعزف على اوتار قلبه لحنا طبيعي الرنين . مرة أخرى يفشل في كبت جماح هذه الذاكرة الهائجة ..
جاء المترو و تزاحم الناس للصعود . صعد الجميع و غصّت العربات حتى أن ابوابه لم تُغلق. لم يصعد هو و بقي في انتظار الرحلة القادمة. كان في الحقيقة ينتظر اشياء كثيرة، كان في انتظار صُدفة قد تجمع بينهما مجددا، كان في انتظار قدر لا يعلم عنه شيئا.. كم تحمل هذه المحطات من ذكريات مؤلمة و مفرحة، كم ذُرفت فيها من دموع الوداع، كم أُطلقت من شهقات الألم ، كم إحتضنت من لقاءات غير متوقعة ، كم مصادفة حصلت على رصيف هذه المحطة.. هي المحطات غالبا ما تكون سببا في شقاء الكثير و في سعادة الكثير . هي الحياة أيضا ليست سوى محطة عابرة ، تُسعِد و تُحزنُ، تُبكي و تُفرحُ و هو الآن فيها مسافرا لا يعلم أي وجهة يسلك. يسير دونما هدف محدّد. تترنّح به كسفينة دون رُبّان تتلاطمها أمواج بحر هائج ..
في عتمة الانتظار ، فُتحت أمامه مظلّة لم ينتبه لصاحبتها ، كان غارقا في تفكيره .. بادرته السلام ، ردّ التحية بأحسن منها أو ربما هكذا بدا له. كانت في أبهى حلة ، زادتها قطرات المطر رونقا و زينة و صفاء .
لم يتحدّثا طويلا ، كان الوقت يقترب من المغيب و السماء تمطر بغزارة.. أشارت عليه ففهم القصد من الوهلة الأولى، دخل تحت المظلة ، اقترب منها ، همست له و همس لها ..
سارا جنبا الى جنب و غادرا محطة المترو .. و اشتد نزول الأمطار ...
يتبع
======
الجزء الخامس
=====

... هو ليس ممّن يميلون الى الفضاءات الضيقة و احتساء القهوة في الفناجين الفاخرة .. كان يشعر بشيء من الاختناق كلما وجد نفسه داخل احدى المقاهي الفاخرة. هو ابن الطبيعة و الجبال، ابن الفضاءات الرحبة الشاسعة التي لا حدود للبصر فيها . حاول أن يُؤقلم نفسه مع هذا الفضاء الغريب و ان يعدّل من شخصيته الجامحة التواقة الى الحرية و الطلاقة.. خضع لقوانين المنطق و تمرّد شيئا ما على قيود المجتمع الذي ترعرع فيه و لم ينتبه من ذهوله إلا و النادل ببدلته الأنيقة و ضحكته الصفراء الباهتة يقف أمامه. طلب قهوة و كذلك فعلت هي، كان لابد لهما ان يتقاسما رونق القهوة و أن يتلذذا مذاقها العابر للذاكرة.. كانت تسأله و هي تحرك قطعة السكر في فنجانها، تسأله أسئلة غريبة بعض الشئ و كأنها تحاول فك رموز أحجية قديمة.. كانت تقرأ تقاسيم وجهه و تحاول فك شفرة نظراته الغامضة.. كانت على وجهه ترتسم سطور تاريخ بأكمله ، تاريخ حافل بالاحداث و الاماكن و المشاعر و الاحاسيس، تاريخ آخر يخرج عن طاقة المؤرخين و كتبهم و ليس بوسعهم ان يدوّنوه و لا حتى أن يفهموه.. 
لم يستطع الاجابة عن أي سؤال من اسئلتها المرتبكة، تلعثم و اضطرب و خانته كل قواميس اللغة في تلك اللحظات.. جال ببصره في أركان المقهى يتأمل نقشات مصطنعة على جدرانها. كان في الواقع يبحث له عن مخرج من هذا المأزق الذي لم يكن يتوقعه.. فهمت ارتباكه فحاولت أن تغير مجرى الحديث و أنبرت تسرد عليه فصولا من سيرتها منذ ولادتها بأحد أرياف الشمال الغربي و الى حين التقت عيناه بعينيه .. هي المرأة هكذا تجد متعة ما في الكلام و الثرثرة حتى و ان كان كلام لمجرد الكلام. و كأنها تملئ فراغا أو شيئا من النقص.. لم يهتم كثيرا بما كانت تقول و اكتفى ببعض الكلمات المقتضبة حتى لا يشعرها بالضيق و هي تحادثه .. و فجأة قاطعها بسؤال لم تكن تتوقعه، ابتسمت في حياء أنثوي مريب و حاولت الانزياح به نحو موضوع تعتقد أنه أكثر اهمية.. 
كان المطر قد توقف أما أزقّة المدينة فقد غمرتها الاوحال جرّاء انسداد أغلب قنوات الصرف و غرقت المدينة في بركة من المياه و الوحل .. كان عليه ان يصطحبها الى محطة الحافلات بباب الخضراء حتى يطمئن عليها و لم يغادر المحطة إلا و قد أشارت عليه من بلور الحافلة مودعة و ملوحة بلقاء آخر قريب إن شاءت الاقدار و الصدف .. 
أما هو فقد حملته ساقاه الى نهج الدباغين أين عاج يسأل عن المكتبة الشعبية يريد اقتناء رواية كان قد بحث عنها طويلا و لم يجدها .. كانت تلك الأيام عصيبة غائمة مع تأزم الوضع العام للبلاد و اشتداد الرقابة على الحريات و انتشار المخبرين في كل شبر من البلاد . كان الطلبة مستهدفين بدرجة أولى فحتى شراء كتاب لابد أن يُقرأ له ألف حساب ، لا شيء كان يزعج السلطة أكثر من قراءة كتاب فهم يعرفون جيدا أن المثقف يشكّل خطرا دائما على النظام و أن الكلمات من شأنها أن تفعل ما تعجز عنه اعتى و أحدث أسلحة الدمار الشامل.. في البداية كانت الكلمة و ظلّت الكلمة قوة تستطيع اختراق أسوار الحصون التي يشيدونها و اسوار السجون و الزنازين التي كانت تغص وقتئذ بعدد كبير من المساجين السياسيين.. 
سار شارد الذهن منهك القوى .. في نهج الدباغين تأخذك رائحة الكتب القديمة ملقاة على الأرصفة و امام المحلات. رائحة الكلاسيكيات القديمة من أشعار هوميروس و مسرح كورناي و شكسبير إلى روايات هنري فيلدينغ و توماس هاردي و غيرهم كثر.. هو لا يملك ثمن كتاب منها على الرغم من زهد ثمنها و لكن كانت تكفيه رائحتها و قراءة عناوينها .. هي رائحة تجبرك على التوقف و التأمل و تقليب الكتب.. كتب اهترأت اطرافها من كثرة الأنامل التي مسكت بها ، كتب صنعت أجيالا متعاقبة و أنت تتصفح احداها تعثر على تدوينة يؤرّخ صاحبها لحدث عابر في حياته، دوّنها زمانا و مكانا فلا تملك إلا أن تطلق تنهيدة عميقة و تودّ لو كنت أنت صاحب هذه التدوينات .. 
كان لا بدّ له أن يقرأ الكثير من الكتب حتى لا تخونه اللغة في لقاءاته القادمة. 
تعب من السير و انتبه الى أن الوقت لم يعد يسمح بمزيد التسكع حسب ما تمليه قوانين الاجتماع الذي ترعرع فيه .. قفل راجعا الى المبيت الجامعي ، إتّجه صوب ساحة برشلونة ، كانت عصافير شارع بورقيبة تطلق سمفونية مسائية و هي تعود الى أوكارها ، كان رجل شرطة يقف طوال النهار بجانب سور السفارة الفرنسية يحرس ما تبقى من الارث الاستعماري ، نظر إليه طويلا و هو يسير جنب السفارة و تزاحمت في داخله الافكار المتضاربة .. كم هي حرة تلك العصافير طليقة، كم هو سجين ذاك الشرطي التعيس الحظ .. 
أما هو فلم يكن يعلم أي طريق يسلك ، كان مازال يتحسس طريقه ، قالوا له أن الجامعة فضاء الحريات و لكنه لم يمتلك بعد ما يكفي من التحرر لكي يفعل و يقول ما يريد .. 
كان ذلك في منتصف شهر اكتوبر و قد بدأ الاساتذة يلقون دروسهم على مدارج الجامعة ، و في الضفة الأخرى من البلاد كان الآباء و الأجداد قد بدأوا يحرثون الارض و يزرعونها قمحا و شعيرا بعد أن أمطرت و استبشر أهل الريف ..
ما إن دخل المبيت الجامعي حتى اشار عليه الحارس البواب بأن رسالة قد وصلت بإسمه ، أخذها بشوق كبير ، دخل غرفته و استلقى على سريره .. و فتح الرسالة ...
يتبع ..

هنا بني خداش
موسم جني الزيتون

بني خداش NEWS

بقلم الأستاذ لسعد المحضي   ========= الجزء الأول كان يلتقط حبات الزيتون بين أصابعه من صحن الكفتاجي داخل مطعم شعبي في زاوية من زوا...